**«أصل الأنواع» لأحمد عبد اللطيف: رحلة أدبية في عمق سؤال ما بعد الإنسان وتطور الوعي والمدينة**
في المشهد الثقافي العربي المعاصر، تبرز أعمال
روائية تتجاوز السرد التقليدي لتغوص في أعماق الفلسفة والعلوم، مُقدمةً رؤى جديدة
حول الوجود الإنساني وتحدياته. رواية "أصل الأنواع" للكاتب الروائي
المصري المبدع أحمد عبد اللطيف، الصادرة حديثًا عن "منشورات حياة"، هي إحدى
هذه الأعمال التي لا تكتفي بمجرد تقديم قصة، بل تدعو القارئ إلى رحلة فكرية معمقة
تُحاكي نظرية التطور لتشارلز داروين، ولكن بمنظور فني وأدبي يلامس أبعادًا وجودية
ونفسية ولغوية لم تُستكشف من قبل.
![]() |
**«أصل الأنواع» لأحمد عبد اللطيف: رحلة أدبية في عمق سؤال ما بعد الإنسان وتطور الوعي والمدينة** |
- هذه الرواية ليست مجرد نص
- بل هي تجربة متكاملة تتفاعل فيها الحياة والموت، الواقع والمتخيل
- في نسيج سردي فريد
يفتح آفاقًا جديدة للتأمل في مفهوم "ما بعد الإنسان".
**تطور يتجاوز البيولوجيا من داروين إلى سؤال ما بعد الإنسان**
تُشكّل نظرية التطور، كما صاغها داروين، حجر الزاوية الذي تنطلق منه الرواية، إلا أن عبد اللطيف لا يقف عند حدود الإحالة العلمية البحتة. بدلاً من ذلك، يُزحزح الكاتب المفهوم البيولوجي للتطور ليُعيد تشكيله فنيًا، مُوسّعًا نطاقه ليشمل شبكة معقدة من الأبعاد التاريخية، العاطفية، واللغوية.
- هذا التناول يُعد إضافة نوعية للأدب العربي، حيث يفتح الباب أمام نقاشات فلسفية حول مستقبل
- البشرية في ظل تحولات متسارعة، وما يعنيه التطور عندما يتجاوز الجانب الجسدي ليطال الوعي
- والعلاقات الإنسانية والمدن التي نعيش فيها. الكاتب يدفعنا للتساؤل: هل التطور دائمًا صعود نحو
- الأفضل، أم أنه قد يكون ارتدادًا نحو صورة أكثر بدائية، أو حتى فقدانًا لما يميزنا كبشر؟
**الفقد كاستعارة جسد المدينة ومدينة الجسد**
منذ الصفحات الافتتاحية، ينسج عبد اللطيف خيطًا رفيعًا بين الخاص والعام، بين الحقيقة والوهم، وبين الحلم والواقع. يجد القارئ نفسه مُلقىً داخل عالم "رام"، المهندس المدني الذي يُكلف بمهمة "تطوير" تتضمن هدم مقابر القاهرة القديمة لتوسيع المدينة.
- هذه المهمة، التي تمثل صراعًا بين الماضي والمستقبل، تتوازى مع فقد عاطفي يعيشه رام، ليعيش
- صدمة أعمق عندما يفقد شعره فجأة. هذه الحادثة الفردية لا تبقى معزولة، بل تتحول إلى ظاهرة وبائية
- تتسع لتشمل سكان المدينة، يفقدون فيها الشعر، الأصابع، الأطراف، وحتى المشاعر والروابط
- الإنسانية.
هنا، يتجاوز الفقد كونه وباءً غامضًا ليغدو استعارة عن فكرة "الأطراف والزوائد الداروينية". إنها محاكاة فنية لمسار تطوري معكوس، يُعيد تشكيل الإنسان المعاصر في صورة كائن منقوص، أو "بدائي" جديد. الرواية تُثير تساؤلاً جوهريًا حول هشاشة ما نعتبره تقدمًا وتطورًا، وتُظهر كيف أن هذا الفقد الجسدي والمعنوي يُعيد تعريف الوجود الإنساني ذاته.
إنها ليست مجرد خسارة مادية، بل هي خسارة للهوية، للذاكرة، ولأسس الوجود البشري كما نعرفه. تصبح القاهرة، بكل صخبها وحفرها ومقابرها المهدّمة، مرآة تعكس هذا الفقد المتغلغل في أجساد وعقول ساكنيها.
**مقابر الأحياء والأموات المدينة بوصفها كائنًا حيًا ميتًا**
يُمهّد هذا الاتصال الوشيج بين الجسد والمدينة
في الحياة إلى امتداد موازٍ مع الموت. تُصبح المقابر، "مدينة الموتى"،
متصلة بالمدينة الحيّة عبر توظيف سوريالي بارع. تتحوّل عملية التوسعة والتطوير
العمراني، التي تتضمن هدم ونبش المقابر، إلى مشهد غريب يتعايش فيه الناس في المقاهي
والطرقات مع "موتى" يسيرون بأكفان بيضاء مُتربة وظهورهم بين المارة. إنها
رؤية فانتازية مرعبة ومُتأملة في آن واحد، كأن المدينة بأكملها أصبحت تعيش على
حافة عالمين، حيث تتداخل الحياة والموت بلا فواصل واضحة.
- هذه الغرائبية لا تُقحم في السرد اعتباطًا، بل تُقدم كمدخل للعالم النفسي المعقد لـ"رام". لا يمكن فصل
- ملامحه النفسية، وخوفه المتأصل منذ الطفولة من الظلام والأشباح، عن جغرافيا المدينة التي يسكنها
- وتسكنه. القاهرة، بكل تاريخها المتراكم وصراعاتها الحالية، تتحول إلى مسرح أوسع لمخاوفه
- وهواجسه.
وعندما
تموت زوجته وحب حياته "نيفين"، لا ينتهي حضورها بدفنها في قبر، بل تتحول
إلى شبح يُلازمه، يتسلل إلى ذاكرته وهواجسه، وحتى علاقاته العاطفية الجديدة. هذا
يجعل الحب نفسه يخضع لمسار تطوري خاص به، حيث يصبح الحب الجديد إعادة عبور إلى "مدينة
نيفين"، في تعقيد يطرح سؤالًا فلسفيًا عن أصالة المشاعر ونسخها وأشباحها.
**البنية السردية سيولة الواقع والحلم وعبثية الوجود**
تفتح الرواية مسارًا تأمليًا وفنيًا حول تطور
الحب والعاطفة، لتُقدمهما كـ"أصل" له نسخ وأشباح. هذا التشابك بين الجسد
والمكان يتعزز عبر لعبة سردية ماهرة تمزج الواقع بالمتخيل، وتشتق من سؤال السعادة
سؤالًا وجوديًا لا يخلو من العدمية: "حياتنا مادة سائلة تصب في قالب صلب
وثابت لم نختره بمحض إرادتنا هو الوجود". هذه الفكرة تُعد محورية في فهم رؤية
الكاتب للحياة والإنسان.
- البنية السردية السيّالة، الخالية من الحواجز الصارمة بين الواقع والحلم، والحياة والموت، تجعل القارئ
- على حافة ما يراه "رام" وما يتخيله أو يتمناه ويخشاه. يتجه السرد إلى استبصار ما قد يؤول إليه
- إنسان مدينة يُهدم قلبها، بتاريخها وتراثها ومقابرها القديمة. ما الذي قد يفقده الإنسان عندما يفقد
- عاطفته وغرائزه البشرية تباعًا؟ الرواية تُجيب بأن التطور العكسي لا يغير شكل الجسد وحده، بل
- يُعيد تعريف الحب والسعادة نفسهما، مُعطيًا البعد الجسدي والوجودي
في آن واحد.
**فلسفة الجمال واللغة أبجد هوز وتطور الألم**
لا ينفصل انشغال الرواية بفكرة "ما بعد الإنسان" عن فلسفتها الجمالية العميقة. إنها تعمل على إعادة صياغة العلاقة بين الأصل والبديل، وبين الفقد والتحول، لتطرح أسئلة جوهرية حول موقع "الإنسان الجديد" في مسار تطوري قد لا ينتهي بالارتقاء، بل بالارتداد.
- كما تُسلط الضوء على العلاقة بين الإنسان والمدن التي يبنيها وتهدمه: "المدينة لم تعد مدينة طفولته
- وشبابه، بل صارت أخرى غريبة، وهو نفسه من يساعد في غرابتها، وفي إخفاء معالمها هو نفسه يد
- تمحو ذكرياته، وهو نفسه قدم تطأ وجهها بما تحمله من براءة وتيه". هذا الاقتباس يلخص جوهر
- الصراع بين الإنسان وبيئته، وكيف يصبح الإنسان شريكًا في
عملية التدمير التي تطاله.
تعزز البنية الفنية للعمل اشتباك الرواية مع سؤال التطور بشكل لافت. يبدأ ذلك باختفاء علامات الترقيم على امتداد العمل، وهو خيار فني جريء يطرح سؤالًا حول تحرير النص وإعادته إلى بدائية السرد وسيولته، كأن اللغة نفسها تمر بعملية تطور أو ارتداد. وتصل ذروة هذا التفاعل في تقسيم الأحداث على مدار أسبوع واحد، مُستعارًا من القاموس المسيحي لـ"أسبوع الآلام".
هذا
الاختيار يستدعي فكرة تطور الألم ذاته، من لحظة "أحد الزعف" إلى بلوغه
ذروة الفقد في "سبت النور". ثم يتم تفتيت هذه الأيام إلى فصول قصيرة
تحمل الحروف جذور الأبجدية الأولى "أبجد هوز" وتُحيل إليها، وكأن
الرواية تستعيد مسار تطور اللغة من بداياتها. هذا البناء الفني يصبح مرآة لمسار
مزدوج: تطور اللغة وتحولات الألم، في دلالة عميقة على ترابط جميع مستويات الوجود
الإنساني.
**شخصيات في مرمى التطور فانتازيا وسخرية سوداء**
تتّسع الرواية لتحتضن أبطالها في حيّ واحد، بدءًا من "رام" المهندس المدني، مرورًا بـ"سيد بتشان" بائع الفاكهة، ولاعب كرة القدم "يحيى الحافي". يجمعهم السرد في مرمى تطور المدينة الذي يضعهم في مفارقات لا تخلو من فانتازيا وسخرية سوداء.
- هذه الشخصيات، بكل تبايناتها الاجتماعية والنفسية، تُصبح جزءًا من تجربة جماعية في مواجهة الفقد
- والتغير. تكشف لغة الرواية، رغم خضوعها لسلطة راوٍ عليم واحد، عن حساسية خاصة تجاه العوالم
- المتباينة لشخصياتها، وعن قدرتها على التقاط لحظات التبدّل التي تفرضها خسارة الأطراف، أو تبدّل
- ملامح الحب والقدر.
في هذا العالم، تُصبح الأطراف الناقصة جزءًا لا يتجزأ من معمار السرد، ليس باعتبارها علامة على النقص فقط، بل كشرط جديد للتكيف مع العالم الجديد. وبينما يتعامل الأحياء مع هذا النقصان على أنه واقع لا مفر منه، يُطلّ الموتى في المشهد العام بوصفهم مرآة مقلوبة. هذا التداخل المربك يجعلنا أمام أحياء يتقدمون في الحياة ناقصين، وأموات يسيرون للخلف، في تداخل يجعل الحدود بين الحياة والموت مجرد خط وهمي قابل للعبور في أي لحظة.
"ستكون القرافة رحماً
كذلك، لكنه رحم مختلف يلِد الموتى من جديد، لكن ليس في العالم الآخر، بل في عالمنا
نفسه". هذا التصور الجريء يُعيد تعريف الموت والحياة، ويُظهر كيف أن الفقد
يمكن أن يكون بداية لولادة جديدة، وإن كانت ولادة معكوسة أو مشوهة.
**ختامًا**
"أصل الأنواع" لأحمد عبد اللطيف ليست مجرد رواية تُقرأ، بل هي تجربة أدبية وفكرية تُحرض العقل وتُثير الوجدان. إنها دعوة للتأمل في مسارات التطور التي لا تتوقف عن إعادة تشكيلنا، ليس فقط ككائنات بيولوجية، بل ككائنات ثقافية، عاطفية، ولغوية.
من خلال سردها الفريد وشخصياتها
المعقدة وموضوعاتها الفلسفية، تُقدم الرواية إضافة قيمة للمكتبة العربية، وتُرسخ
مكانة أحمد عبد اللطيف كواحد من أبرز الروائيين الذين يجرؤون على استكشاف المناطق
الشائكة في الوعي البشري والمجتمع المعاصر. إنها عمل يستحق القراءة والتدبر،
ويُبقي أسئلته عالقة في ذهن القارئ طويلًا بعد الانتهاء من آخر صفحة.